يواجه الإنسان المعاصر في الألفية الثالثة، أزمات طويلةفي أسوأ الأوضاع المتداخلة من المعالم والثقافات غير المتجانسة والمتخالطة المعروضة أمامه بمايفقده الكثير من الحبال الضروية التي يتمسّك بها لصيانة وجوده والإمساك بمستقبله تائهاً في رياح ما يتجاوز إمكاناته. لماذا؟
لأنّ الترتيب الحديث للدول والتجمّعات والشركات العابرة للقارات وإختلاط العقول والأيدي العاملة تستند كلّها اليوم إلى مدى القدرةعلى فهم دفق التحولات والمخترعات التكنولوجية وإستيعاب صدماتها المحكومة بالعظمة التي تكتسبها الأسواق الخارجية في أحلام الدول والبشر على السواء.كيف يمكن وضع تصوّر أو توليف سياسة علاقات دولية وإجتماعية لا تقتصر فقط إلى القوّة العسكرية بهدف السيطرة على المواد الأوّلية أو بقاياها؟ بإعتماد العقل.
صحيح أنّ العقل طغى على الأرض والفضاء ومواردهما، لكنّ الصحيح أيضاً،أنّ خوفاً كونياً يساورالبشرية من طغيان هذا العقل شأنه شأن رقاده. بات هذا الترويج للعقل وكأنّه سفينةً عصرية بمتناول كل الناس وهو ما يولّد وسبق له أن ولّد أموراً مخيفة عبر إفرازات العلم والكشوفات وهو يتابع في توليد خوافه وأمراضه مع التكنولوجيات الدقيقة المتدفّقة.
وهنا أقدّم مثالاً قديماً لربّما ينسحب على هذا العصر الرقمي:
إنّ طغيان العقل الذي فرضته الثورة الفرنسيّة مثلاً (1789) قاد إلى التعصّب الجنوني بتقديسالعقل الذي تجاوز أو ولّد ممارسات محاكم التفتيش التي كانت تحافظ وتقتل وتصلب بذريعة صيانة الإيمان ونقاء المعتقدات. قال المحقق العتيق غليوم دو باسكرفيل، بطل إمبرتو إيكو)1932-2016) في روايته المسمّاة:" إسم الوردة" le non de la Rose وهو الكاتب الإيطالي الذي حفر في بحثاً في القرون الوسطى : "يجب أن تخاف من "الأنبياء" وخصوصاً من هم على إستعدادٍ دائمٍ للموت من أجل الحقيقة في نظرهم لأنّ هؤلاء يميتون الكثيرين بطريقهم ومعهم أو قبلهم وأحياناً بدلاً منهم"وكلّ ذلك الموت بهدف قيادتهم أو حراستهم لحصون المعتقدات".
قد لا أنجح في الإجابة على هذه المسائل المعاصرة المعمّمة الضائعة بين العقل ونقيضه. لكن قرع باب الحلول قد يقود إلى البحث، على الأقل، بإرادةٍ ناقدة عن موقع المواطن أو الإنسان في مجتمعات مصدومةٍ بوتائر التجديد وصدمات المخترعات المتناسلة الأجيال الفقيرة الأعمار. كلّ جيلٍ يدفن الجيل الذي سبقه من دون أية رحمة. وكأنّ الذاكرة مفرغة من معانيها ومثلها التراث وكذلك الماضي بكلّ ما بقي منه جديداً قائماً أو مترسباً في القعر إذ لا مكان لزحله أو حرقه أو طمره.
السؤآل في هذا المجال واضح بحثاً عن هذا الإنسان الذي يتحمّل الإنهيارات المتلاحقة لقيمٍ قديمة جدّاً والتي يستبدلها ببعض الأفكار والمظاهر والمقتنيات المبنيّة على معتقدات التقدم والعلم المسكون بالمخاطر النووية اليومية والنهايات والتي قد يصعب توليفها مع المعتقدات الثابتة القديمة التي يركن إليها الكثير من البشر تحت عناوين الحظ والمصير والمكتوب والمقبول مهما كان قاسياً.
يتأرجح إذن هذا الإنسان الجديد الإنترنتي بين تقدّم العقل وتقدّم نقيضه ليخطو نحو الرابط الإنساني المحض الذي يجعل الإنسان فوق عندما يتعلّق الأمر بالحق في الحياة والأمن والتفكير بصرف النظر عن الموروث.
وتخفيفاً للوطأة المعاصرة القويّة، أعود بالقاريء إلى عصر النهضة الأوروبيةالذي نعى قوّة المسيحية المطلقة وسيادتها، حاملاً فوق جبينه ونصوصه الفكر الجديد آنذاك المركون بالعقل في كتابات الفلاسفة وأساتذة الجامعات الفرنسية التي ساهمت بالمشاركة العمليّة في الحركة العلميّة التي أفرزت مجتمعةً عصر الأنوار بما ساعد على قياس المسافات وهندستها بين الدين والفلسفة أو بين الإنسانية والمسيحية.
ولو عدنا إلى الوراء أعني إلى نهايات القرون الوسطى مثلاً، لصادفنا حضور العقل الصادم في ميادين الثقافة الأوروبيّة، التي حلّت بعد أكثر من ألف سنة من دفن المثل والقيم اليونانية اللاتينية تحت النموذجين اليهودي والمسيحي. ألم يؤسّس الإيطاليّان ليونارد دو فنشي (1452-1519) وغاليله ( 1564-1642) لعصر النهضة المبني على العقلانية وتقويض الخرافات والإستبداد منذ القرن الثامن عشر وهو ما أدّى إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي مهر روح الثورتين الأميركية والفرنسية؟
إنّ وقوف الدين والعقل متجابهين بين الثقافات اليونانية اللاتينية والتقليد اليهودي المسيحي أفرز ما سمّي آنذاك مقاييس "عصر النهضة" الذي ما زلنا حتّى اليوم نقاصص به بقايا الأمم ومستوياتها فلا نعرف لماذا وكيف.كان الإيمان يفترض الإحترام التام للكتاب المقدّس أو قلب الكنيسة كمؤسسة تجذّرتوأرست أنظمة الحياة وتفسير النصوص والعقائد وهندست معايير الأخلاق والجمال والحقوق والقيم. وكانت هي المرجع المحافظ على كلام الخالق ولها سلطات قاسية تعاقب أصحاب الأفكار "الإنحرافية" عبر الحرم والتحقيق والسجن وحتّى التعذيب.
يومها كان للريادة في التغيير عنوان لكنّه العنوانالضائع اليوم مع الإنسان الرقمي التائه فوق رخاء العالم ورخاوته؟